03-20-2010, 11:05 PM | المشاركة رقم: 1 |
|
المنتدى :
نافذة القسس الإسلامية
عكرمة بن أبي جهل
الدرس 27\50 سيرة الصحابي : سيدنا عكرمة رضي الله عنه لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام : مع بداية الدرس السابع والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا عكرمة بن أبي جهل . أيها الإخوة الأكارم ، هذه القصة لها دلالات عظيمة ، ومن أبرز دلالاتها أن أشدّ الناس عداوةً إذا اهتدى إلى الله عز وجل يكون من أشدِّ الناس نصرة ، والمؤمن لا ييأس من أعداء الله ، مهما تكن العداوة شديدة ، ومهما يكن البُعدُ واسعاً ، هذا العدو اللدود ، وهذا الخصم العنيد ، وهذا المقاتل في سبيل الطاغوت إنسان لو اهتدى إلى الله سبحانه وتعالى لصار أقربَ الناس إليك ، فلذلك هذه القصة تعطينا أوَّلاً تفاؤلاً ، وثانيًا دلالةً عظيمةً في أن المؤمن يطمع حتى في أعدائه ، وسوف ترون كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته البالغة ، ورحمته الواسعة ، وعطفه الشديد ، وبُعدِ نظره ، كيف أنه صنع من ألدِّ أعدائه نصيراً وصحابياً ، مات في ساحات الجهاد ، هذا الصحابي كان في أواخر العقد الثالث من عمره ، فسِنّه ما بين خمس وعشرين وثمانٍ وعشرين سنة ، يوم صدع نبي الرحمة بدعوى الهدى والحق ، وكان من أكرم الناس حسباً ، وأكثرهم مالاً ، وأعزهم نسباً ، من علية القوم وأشرافهمم ، ومن الفرسان ، وكان جديراً أن يسلم كما أسلم نظراؤُه ، من أمثال سعد بن أبي وقاص ، ومصعب بن عمير ، وغيرهما من أبناء البيوت المرموقة في مكة ، لولا عنادُ أبيه ، فمَن هو أبوه ؟ إنه أبو جهل وكفى ، زعيم الضلال ، وزعيم المناوأة والشرك ، وزعيم القسوة ، وحتى أيامنا هذه إذا أردتَ أن تصف إنساناً بالقسوة والغلظة والبطش وقسوة القلب تقول عنه : "أبو جهل" ، هذه كلمة يستعملها الناس إلى يومنا هذا . عكرمة بن أبي جهل وجد نفسه مدفوعاً بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أكبر خطأ ، أنْ يتحرك الإنسانُ بلا وعي ، وينطلق بلا هدف مع الناس ، إن أحسنَ الناس أحسنتَ ، وإن أساءوا أسأتَ ، يقول هكذا تَربَّينا ، ونشأنا ، هذا هو التيار الجارف ، إنها بلوى عامة ، وهكذا المجتمع ، وتقول الزوجة : هكذا زوجي يريد ، لا كما يريد الله عزوجل ، أكبر غلط للإنسان أنْ ينساق مع مَن حوله بلا وعي ، يخاصم بلا سبب ، ويناوئ بلا مبرر ، ويرتكب المعاصي بلا قناعة ، ويقاتل من دون فهم ، ويسالم من دون سبب وجيه ، هذا هو الإمعة ، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يكون أحدُنا إمَّعة ، والإمّعة هو الذي يقول : أنا مع الناس ؛ إن أحسنوا أحسنتُ ، وإن أساءوا أسأتُ ، "ضع رأسك بين الروس ، وقل: يا قطاع الروس" ، هكذا كلام العوام ، هذا هو الجهل بعينه ، وهذا هو التخلف العقلي ؛ هذا هو ضعف الشخصية . عكرمة بن أبي جهل شاب في أواخر العقد الثالث من عمره ، بحكم عداوة أبيه الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم وجد نفسه منساقاً إلى هذه العداوة ، وإلى مناوأة النبي عليه الصلاة والسلام ، فبحكم بيئته ، وانسجاماً مع عداوة أبيه ، وانطلاقاً ممن حوله ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أشدّ العداوة ، وآذى أصحابه أفدحَ الإيذاء ، وصب على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرّتْ به عينُ أبيه ، فقد قرَّت عينُ أبيه لشدة ما نال من أصحاب رسول الله ، وما نكّل بهم ، ولشدة ما ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من العداوة والبغضاء والتجريح و الطعن ، ولما قاد أبوه معركة الشرك يوم بدر ، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا بعد القضاء على الإسلام بهزيمة محمد صلى الله عليه وسلم . أيها الإخوة الأكارم : إياك أن تحتمي بغير الله ، وأن تلوذ بغير الله ، " فما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلتُ الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعتُ أسباب السماء بين يديه . فأبوه زعيم الشرك ، قاد معركة الشرك ، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمداً صلى الله عليه وسلم ، ونزل ببدر ، وأقام بها ثلاث ليالٍ ينحر الجُزُر ، ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف ، خمر على نساء ، على غناء ، على قسم باللات والعزى ليهزمنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يعود إلى مكة ، لكن اللات والعزى لم يلبِّيان نداء أبي جهل ، لأنهما لا يسمعان ، قال تعالى : (سورة فاطر ) هذه الآية رائعة جداً في وصف أهل الشرك ، وعلى فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لكم. فلم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان ، ولم يسمعاه لأنهما أصمّان ، فالويل لمَن يعتمد على أصمّ وعاجز ، لكن الله سبحانه وتعالى أينما توجهتَ إليه يسمعك ، وحيثما أقبلتَ عليه يستجبْ لك، وهو على كل شيء قدير ، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ، في معركة بدر خرَّ أبو جهل الطاغية الكبير صريعًا ، ورأى ابنُه عكرمةُ بعينه رماحَ المسلمين تنهل من دمه ، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه . لقد خر صريعاً ، وفي اللغة العربية يقال : فلان مضرّج بدماء الشهادة ، وفلان ملطخ بدماء الجريمة ، فإذا كنتَ في مهمة نبيلة ، وسال دمُك ، فهذا دم ضُرِّج به صاحبُه ، أما إذا كان في مهمة خسيسة ، يأتي ليعادي الحق ، وليطفئ نور الله عز وجل فيقال : إنّه ملطخ بدماء الجريمة . عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خلف جثّةَ سيد كفار قريش في بدر ، فقد أعجزته الهزيمة أنْ يظفرَ بجثة أبيه ليدفنها في مكة . تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع هذه الجثث في قليب ، أي في بئر ، وناداها واحداً واحداً ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ * (رواه مسلم) لكن بعد مقتل أبيه أخذ عكرمة موقفًا آخر ، كان في بادئ الأمر يعادي النبي صلى الله عليه وسلم حَميَّةً لأبيه ، فأصبح يعاديه اليوم ثأراً لأبيه ، ومن هنا انبرى عكرمة ونفر ممَّن قُتِل آباؤُهم في بدر يؤجِّجون نار العداوة في صدور المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، ويضرمون جذوة الثأر في قلوب الموتورين من قريش ، حتى كانت موقعة أحد ، فخرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد وأخرج معه زوجته أمُّ حكيم ، لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهنّ على الدفوف ، تحريضاً لقريش على القتال ، وتنديداً لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار ، خرج عكرمة بن أبي جهل ، وأخذ معه زوجته أم حكيم كي تكون الزوجة دافعًا لزوجها في اقتحام الأخطار ، ولإحراز النصر ، لعل هذا النصر يكون ثأراً لموقعة بدر . جعلت قريش على ميمنة الجيش خالد بن الوليد ، وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل ، وكان قائداً لامعاً جداً ، وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاءً رجّح كفة قريش على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، الذين عصوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحقق للمشركين النصر الكبير ، مما جعل أبا سفيان يقول : هذا يومٌ بيوم بدر ، وفي يوم الخندق حاصر المشركون المدينة أياماً طويلة ، فنفذ صبر عكرمة بن أبي جهل ، وضاق ذرعاً من الحصار ، ونظر إلى مكان ضيق من الخندق ، وأقحم جواده فاجتازه ، ثم اجتازه وراءه بضعةُ نفر في أجرأ مغامرة ، ذهب ضحيتها عمرُو بن عبد وُدٍّ العامري أمَّا هو فلم ينجُ إلا بالفرار ، انسحب وفرّ ، وفي يوم الفتح ، طبعاً نستعرض الأحداث بين موقعة بدر وبين فتح مكة سريعاً ، استعرضنا موقعة أحد ، وموقعة الخندق ، لكن العقدة في القصة يوم فتح مكة ، في يوم الفتح رأت قريش ألاّ قَبَلَ لها بمحمد صلى الله علي وسلم وأصحابه ، فأجمعت على أن تُخلِيَ له السبيل إلى مكة ، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن النبي عليه الصلاة والسلام أمَر قواده ألاّ يقاتلوا إلا مَن قاتلهم من أهل مكة ، لكن عكرمة بن أبي جهل ، انظروا إلى عداوته وإلى إصراره على ذلك ، وإلى شدة حقده وبغضه للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، لكن عكرمة بن أبي جهل ونفرٌ ممّن معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدَّوا للجيش الكبير ، فهزمهم خالد بن الوليد ، والذي أسلم قبل فتح مكة بعام ، هزمهم في معركة صغيرة ، قُتِل فيها من قُتِل ، ولاذ بالفرار من لاذ ، وكان في جملة الفارِّين عكرمة بي أبي جهل ، بعد أنْ قاتل سيدنا خالد بن الوليد ، ثم فرّ عند ذلك ، هنا العقدة ، خرج عكرمة مِن مكة موطنه الذي نبت به ، وبعد أن خضعت للمسلمين ، والنبي عليه الصلاة والسلام عفا عما سلف من قريش تجاهه ، فعن ابن عباس (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : (الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ماذا تظنون يا معشر قريش) قالوا : خيرا ، أخ كريم ، ابن أخ كريم ، وقد قدرت ؛ قال : (وأنا أقول كما قال أخي يوسف : "لا تثريب عليكم اليوم" ، فقال عمر رضي الله عنه : ففضتُ عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أني قد كنتُ قلت لهم حين دخلنا مكة : اليوم ننتقم منكم ونفعل ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي)) (تفسير القرطبي ، سورة يوسف ، الآية 91-92) إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام استثنى منهم نفراً سمّاهم بأسمائهم واحداً واحد ، وأمر بقتلهم ، وإنْ وُجِدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عكرمة ، عفا عن كل أهل قريش غير فلان وفلان ...هؤلاء أمرَ بقتلهم ، ولو تعلقوا بأستار الكعبة ، فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمَهم ، وقد مَّر معنا من قَبلُ قوله تعالى : (سورة الزمر ) كانت عزَّتُه عليه الصلاة والسلام تقتضي أنْ يعاقب أعداءه ، هكذا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ دمَهم ، وأمر بقتلهم ، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة عكرمةُ بن أبي جهل ، عداوة ما بعدها عداوة ، تذكروا أول الدرس فقد قلت : هذه القصة لها دلالة كبيرة ، لأنّ أَلَدَّ أعداء المسلمين ، وأشدَّ خصومهم إذا اهتدى إلى الله يصبح أقرب الناس إليهم . لي صديق حدثني أنه زار بلدًا في أمريكا الشمالية ، كندا ، وفي مونتريال زار مركزاً إسلامياً ، وهناك في أثناء تفقد المركز الإسلامي وهو من ثلاثة طوابق ، قال لي : وَجدتُ رجلاً في غرفة في زاوية المسجد يصلي ، فأردت أن أصغي إلى قراءته ، أدهشني أنه يصلي ويبكي ، ويصلي ويدعو وتنهمر دموعه ، قال لي : شيء لا يصدق ، ركعتان تستغرقان معه ساعتين ، بينما التراويح عشرون ركعة تتم في ساعة في مساجدنا ، وأنا مصرٌّ على أن أستمع إلى دعائه وابتهاله ، وتهجده وتلاوته للقرآن ، وبعد أن انتهى من صلاته ، معه فراش صغير اندسّ فيه ، ونام على شقه الأيمن ، فالمضيف الذي جاء بي إلى هذا المركز أخذته من يده في الطابق الأسفل، وصعدت به إلى الطابق الثالث ، وقلت له : انظر أرأيته ، قال : نعم ، قلت له : مَن هذا؟ قال : هذا من أبناء كندا الأصليين ، اهتدى إلى الله عز وجل ، وكان يمضي عطلة نهاية الأسبوع على سواحل البحار ، وفي النوادي الليلية ، ويرتكب هو وزوجته كل الموبقات ، فلما دُعِيَ إلى الإسلام ، وأناب إلى الله ، واصطلح معه نذر أن يمضي يومين من كل أسبوع معتكفًا في هذا المسجد هو وزوجته ، قلت له : أين زوجته ؟ قال : في قسم النساء ، مثله تصلي وتتهجد ، ولا يبدو من جسمها شيء حتى إنها تلبس القفازين ، وعليها جلباب كامل ، ووجهها مستور ، قلت : يا سبحان الله !! إنسان متفلت غارق في المعاصي والآثام يصبح من العباد الخلص ، وهو من سكان كندا ، هذه القصة غريبة جداً . ولنَعُد الآن إلى عكرمة بن أبي جهل ، وقد علمتُم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، وربما بعد قليل تتأثرون تأثراً بالغاً بموقف هذا الرجل الصحابي الجليل ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بهدر دمه ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، لماذا ؟ لشدة عداوته ؛ وشدة تنكيله بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وشدة كراهيته للإسلام ؛ وكان عكرمةُ في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ عليه الصلاة والسلام دمَهم وأمر بقتلهم ؛ لذلك تسلَّل متخفياً من مكة ، ويَمَّمَ وجهه شطر اليمن ، إذ لم يكن له ملاذٌ إلا هناك ؛ وهذا بالتعبير الحديث يُسمَّى اللجوء السياسي ؛ هرب من الجزيرة العربية إلى اليمن في جنوبها . أم حكيم زوجتُه ، فمَن هي أم حكيم ؟ زوجته مضت مع هند بنت عتبة إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ما هذه الجرأة ؟ زوجة أعدى أعداء النبي عليه الصلاة والسلام مع هند بنت عتبة التي مضغت كبد سيدنا حمزة ؛ ذهبتا إلى بيت النبي عليه الصلاة و السلام ؛ ومعها عشرة نسوة ، معهما عشرُ نسوة ليبايعن النبي عليه الصلاة والسلام ، فدخلن عليه ، وعنده اثنتان من أزواجه ، وابنته فاطمة ، ونساء من بني عبد المطلب ؛ تنقبت هندٌ ، أيْ سترت وجهها بالنقاب ؛ وقالت : إذْ لم يعرفها النبي عليه الصلاة والسلام ؛ قالت : يا رسول الله - هند بنت عتبة التي مضغت كبد سيدنا حمزة ؛ وما من امرأة في قريش تكره النبي وتكيد له كهند بنت عتبة - قالت له : يا رسول الله : الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، و إني لأسألك أن تَمُسَّنِي رحمتُك بخير ، فإني امرأة مؤمنة مصدقة ؛ ثم قالت له : أنا هند بنت عتبة يا رسول الله ؛ فقال عليه الصلاة و السلام : مرحباً بك - امرأة من ألدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام ، حرّضت القرشيين ؛ كانت في معركة أحد خلف الرجال ، ولها أبيات من الشعر لا يليق أن أذكرها لكم في هذا الدرس ؛ في تحريض الرجال على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قالت له : أنا هند بنت عتبة يا رسول الله ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : مرحباً بك ؛ قالت : يا رسول الله : واللهِ ما كان على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليَّ أن يذلّ من بيتك ؛ ولقد أصبحتُ و ما على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليّ أن يعزّ من بيتك ؛ صريحة ، والعرب صرحاء ، وهذا النفاق المعروف اليوم لم يكن موجودًا عندهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : وزيادة أيضاً ، فقامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت ، وقالت : يا رسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً أن تقتله فأَمِّنْه أَمَّنك الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : هو أَمِن ، فالنبيّ كريم اللهم صلِّ عليه ، والكريم هذا شأنه ، سريع الرضى ، هناك أشخاص لو قبَّلتَ رجله لا يرضى ، إذا حقد لم يرض. اقتلوا عكرمة ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، يا رسول الله لقد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً أن تقتله فأَمِّنه أمّنك الله ، قال : هو أَمِن ، فخرجت من ساعتها في طلبه ، ومعها غلام لها رومي ، فلما أوغلا في الطريق ، راودها الغلام عن نفسها فجعلت تمنِّيه ، وتماطله حتى قدمت على حيِّ من العرب ، فاستعانتهم عليه فأوثقوه ، وتركوه عندهم ، ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تهامة ، وهو يفاوض نوتياً ، والنوتي هو الملاَّح صاحب السفينة ، هذا النوتي مسلم ، والنوتي يقول له : أخلص حتى أنقلك ، فقال عكرمة: وكيف أخلص حتى تنقلني؟ قال : تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقال عكرمة : ما هربت إلا منها ، هذا النوتي اشترط عليه أن يسلم حتى يأخذه بسفينته ، وفيما هو كذلك أقبلت أم حكيم على عكرمة ، وقالت : يا بن عمي جئتك من عند أفضل الناس ، جئتك من عند خير الناس ، جئتك من عند أبرِّ الناس ، أفضل الناس ، وخير الناس ، وأبَرِّ الناس ، مِن عند محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، أم حكيم هي التي تتحدث ، سبحان مغير الأحوال !! ولقد استأمنتُ لك منه ، وأمّنك فلا تهلك نفسك ، قال : أنت كلمتِه ؟! يعني تمكنت أن تكلميه أنت؟! قالت : نعم ، أنا كلمته ، وأمّنك ، وما زالت به تؤَمِّنه ، وتطمئنه حتى عاد معها ، ثم حدثته حديث غلامها الرومي فمرّ به ، وقتله قبل أن يسلم ، ليس لنا علاقة بالأحكام قبل أن يسلم. وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلوَ بزوجته فأَبَت ذلك أشدّ الإباء، وقالت : إني مسلمة ، وأنت مشرك ، فتملكه العجب قال : إن أمراً يحول دونك ودون الخلوة بي لأمر عظيم . فهل للإنسان شيءٌ أقرب من زوجت ؟ أمر يكون حائلاً بين المرء وزوجته فهذا الأمر عظيم، وكان ذكاؤه شديداً ، ما هذا الدين ؟ أنت زوجتي ، وأنا زوجك ، قالت : له إني مسلمة ، وأنت مشرك . فلما دنا عكرمة من مكة - الآن دققوا - قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا فلا تسبُّوا أباه ، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت ، قال تعالى : (سورة القلم ) ما هذه الأخلاق السامية ؟! ينهى النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يسبَّ أصحابُه أبا جهل زعيمَ الشرك والكفر ، سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا ، فلا تسبّوا أباه ، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت . أحيانًا قد يلتقي الإنسانُ بأخ يقول له : أبوك لا يصلي ، فليس فيه دين ، كلام ليس فيه لباقة ، الأب غالٍ ، والرسول عليه الصلاة والسلام راعى مشاعر عكرمة في أبيه الكافر المشرك ، العدو اللدود الصنديد . وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم - الآن دخل عكرمة على النبي ، من عكرمة ؟ ألد أعداء المسلمين - وثب إليه النبيّ عليه الصلاة والسلام مِن غير رداء فرحًا به ، والرداء مثل العباءة ، فمِن شدة فرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه وثَب إليه من غير رداء فرحًا بإسلامه . لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام أرحمُ الخلق بالخلق ، هل عندك إمكانية إذا كان لك عدو لدود نال منك أشدّ النيل ، ثم رأيته رجع إلى الله ، وأقبل عليه واصطلح معه ؟ هفي وُسعك أن تحتفل به ، وأن تحترمه كما لو أنه أخوك . أجمل ما في القصة أن النبيَّ قبل أيام قال : اقتلوا عكرمة بن أبي جهل ، ولو تعلّق بأستار الكعبة ، فلما علم أنه أسلم ، وجاءه مسلماً وثب إليه ، يعني هبَّ لاستقباله من غير رداء فرحاً به، ولما جلس عليه الصلاة والسلام - الآن دققوا في هذا الحوار - وقف عكرمة بين يديه ، وقال : يا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إنّ أم حكيم أخبرتني أنك أمّنتي ، فقال عليه الصلاة والسلام: صَدَقَتْ ، فأنت أَمِن ، قال عكرمة : إلامَ تدعُ يا محمد ؟ - صلى الله عليه وسلم - قال : أدعوك إلى أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، حتى عدَّ أركان الإسلام كلَّها ، فقال عكرمة : والله يا رسول الله ما دعوتَ إلا إلى حق ، وما أمرتَ إلا بخير ، ثم أردف يقول : يا رسول الله ، قد كنتَ فينا واللهِ قبلَ أن تدعوَ إلى ما دعوتَ إليه ، وأنتَ أصدقُنا حديثاً ، وأبَرُّنا براً ، ثم بسط يده ، وقال : إني أشهد أنه لا إله إلا الله ، وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال : يا رسول الله علِّمني خير شيء أقوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : قل أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فقال عكرمة : ثم ماذا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تقول أُشْهِد الله ، وأُشْهِد مَن حضر أني مسلم مجاهد مهاجر ، فقال : عكرمة ذلك ، عند هذا قال عليه الصلاة والسلام : اليوم لا تسألني شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيك إياه . وأنتم كمؤمنين ينبغي أن تفرحوا أشدّ الفرح إذا اصطلح أحد خصومكم مع الله عز وجل ، ويجب أن ترحِّبوا به ، وأن تقدّموا له كل طلباته ، وهذه فرصة نادرة ، اسمعوا ما قاله عكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام ، قال : يا رسول الله ، إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتك ، أنا كنت عدُوًّا لدودًا لك ، أو كل مقام لقيتُك فيه ، وكل كلام قلتُه في وجهك ، أو في غيبتك ، فاستغفر لي الله عز وجل ، فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسيرٍ سار به إلى موضع يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي ، أو أنا غائب عنه ، فتهلّل وجه عكرمة بِشْراً ، وقال : أمَا واللِه يا رسول الله لا أدع نفقًة كنتُ أنفقتها في الصَّدِّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفَها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلتُهُ صداً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله . هكذا الاصطلاح مع الله ، أيام الجاهلية سيجعل مكانها أيام جهاد وصبر وعطاء وخدمة ودعوة وطلب علم ، وأيام الإساءة حل محلَّها أيامُ الإحسان ، وأيامُ الجفاء حلَّ محلها أيامُ الود . ومنذ ذلك اليوم انضمَّ عكرمةُ إلى موكب الدعوة فارسًا باسلاً في ساحات القتال ، وعابدًا قوّامًا قرّاءً لكتاب الله في المساجد ، فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربي ، كلام ربي ، وهو يبكي من خشية ربه . ما هذه النقلة أيها الإخوة ؟ لا أعتقد بوجود قصةِ إنسانِ انتقل هذه النقلة الحادة من قصة عكرمة ، إلى درجة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، وأمر بقتله ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، ثمّ إنه أصبح عابداً قارئاً مصلياً مجتهداً ، وعاهد نفسه كل على أنّ كل نفقة أنفقها في الصدِّ عن سبيل الله سينفق ضعفها في سبيل الله ، وكل قتال قاتل فيه بالصد عن سبيل الله سيقاتل عنه ضعفين في سبيل الله . الآن جاء وقتُ البَّرِّ بقَسَمِه ؛ في معركة اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم الحارِّ ، ولما اشتد القتالُ على المسلمين في أحد المواقف الصعبة نزل عن جواده ، وكسر غمد سيفه ، وأوغل في صفوف الروم ، فبادر إليه سيدنا خالد ، وقال : يا عكرمة لا تفعل ، فإنَّ قتْلَك سيكون شديداً على المسلمين ، فبماذا أجابه ؟ قال له : إليك عني يا خالد ، لقد كان لك مع رسول الله سابقة ، أمّا أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم عداوةً ، فدعني أكَفِّر عمَّا سلف مني. أنت لك مواقف ، وقد أسلمتَ في وقت مناسب ، وقاتلتَ ، وأحرزتَ النصر ، أمّا أنا فقد قاتلتُ رسول الله في مواقف كثيرة ، أَوَ أفرُّ من الروم اليومَ ؟ إنّ هذا لن يكون أبداً ، ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين ، فقاتلوا دون فسطاط خالد بن الوليد أشد القتال ، وذادوا عنه أكرم الذود ، ولما انجلت معركةُ اليرموك عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين ، كان يتمدّد على أرض المعركة ثلاثةُ مجاهدين أثخنتهم الجراح ، هم الحارث بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، أمّا عكرمة فقد استشهد . أرأيتم إلى شوقه إلى الاستشهاد ، أرأيتم إلى رغبته الجامحة في التكفير عن سيئاته ، فإذا كان من إخوانا المؤمنين مَن له جاهلية ألا ينبغي أن يبذل في الطاعات ضعفَ الوقت الذي بذله في المعاصي ؟ ألا ينبغي أن يعاهد الله على أنْ يكون قوله وعمله وطاقته في سبيل الله ، فهذا عكرمة!! فلا تيأس من أعداء المسلمين . غارودي زعيم حزب في فرنسا ينكر وجود الله عز وجل ، وهو اليوم من المسلمين ، ويدعو إلى الإسلام ، وله مؤلفات ، فلا تيأس من أعداء المسلمين ، لكن كن موَّفقاً في حسن مخاطبتك إياهم ، فمهمة الداعية توضيحُ الحق وتبيينُه ، لأن هذا العدو إنسانٌ له نفس وفكر وله فطرة وطبيعة ، وسيدنا عكرمة كان عدُوًّا لدودًا مهدور الدم ، فإذا به من محبِّي رسول الله ، هو وزوجته وهند بنت عتبة ، والحقيقة ما عرف التاريخ أبطالاً عاشوا قِيَماً مثل أصحاب رسول الله. الحارث دعا بماء ليشربه ، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة ، وهو جريح ينازع سكرات الموت، وهذا لا يعرفه إلا الجرحى ، فالجريح يشعر بعطش لا يقابل ويتمنى كأس ماء ، فدعا الحارث بماء ليشربه ، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة ، فقال : ادفعوه إليه ، فلما قرّبوه إليه نظر إليه عياش، فقال : ادفعوه إليه ، فلما دنا من عياش وجدوه قد قضى نحبه ، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد قضيا نحبهما ، لقد آثروا بعضهم ، وهم على أرض المعركة في النزع الأخير ، رضي الله عنهم أجمعين ، وسقاهم من حوض الكوثر شربةً لا يظمؤون بعدها أبداً . المغزى من هذه القصة أنه لو كان لك عدو لدود فكن معه محسناً ، وخاطِبْه بالمنطق ، وكن مثالياً معه لعل الله سبحانه وتعالى يكرمك بإسلامه وهدايته ، فإذا اهتدى فهو في صحيفتك ، ولا تنسوا أن سيدنا عمر لما دخل عمير بن وهب على النبي قال : دخل عمير والخنزير أَحَبُّ إليَّ منه ، وخرج من عند رسول الله وهو أحبُّ إليّ من بعض أبنائي . ليس في الإسلام عداوة ، هناك عداوة مؤقتة ، أنت تبغض عمله ، ولا تبغضه ، هو عبد لله تكره عمله فقط ، فأَحسِنْ إليه عسى الله أن يهديه ويجزيك أجره . والحمد لله رب العالمين *** |
|
|