هي قصة كنت قد قرأتها مع قصص أخرى مصنفة من ضمن روائع الأدب العالمي.
مضى زمن طويل، فنسيت اسم القصة واسم كاتبها. فعذراً.
لكني سأحاول سردها بتصرف. سأتصرف بالأسماء والانشاء. أي اني سأعيد صياغتها كلياً وبطريقتي الخاصة؟
المهم هو فكرة القصة وعبرتها وليس الانشاء، خاصة اني كنت قد قرأتها مترجمة.
"ماتيوس" هو رجل انكليزي في الاربعينات من عمره، متزوج ويعمل خادم في كنيسة "مار جرجس" الموجودة في أرقى أحياء لندن.
مضى وقت طويل وماتيوس يقوم بخدمة الكنيسة بكل اخلاص، وكان سعيداًُ بحياته الزوجية، كما كان على وئام مع رئيس عمله كاهن الكنيسة، فكان يعامل ماتيوس معاملة الأخ والصديق.
كان ماتيوس قنوعاً بعمله ويعيش حياته بكل طمأنينة وسلام.
حدث ان توفي الكاهن، وان عينت الهيئة المسؤولة كاهناُ جديداً للكنيسة بدل الكاهن المتوفى.
لم يرتح ماتيوس ابداً عندما رأى الكاهن الجديد. فعند رؤيته له للمرة الأولى شعر بنوع من النفور وعدم الراحة نحوه، إذ انه وجده مغروراً وعنده"شوفة حال".
وبالفعل، لم يمضِ على تعيين الكاهن الجديد سوى ثلاثة أشهر عندما استدعى ماتيوس الى مكتبه في الكنيسة.
ذهب ماتيوس على موعده وهو يتوجس ريبة من هذه الدعوة.
دخل الى مكتب الكاهن الذي كان جالساً بكل فخر واعتزاز وراء مكتبه والى يمينه ويساره أميني سر وصندوق الكنيسة. بكذا كانوا يشكلون الهيئة الادارية لكنيسة مار جرجس اللندنية.
دار بينهم الحوار التالي:
- الكاهن:"قرأت مؤخراً ملف التوظيف خاصتك يا سيد ماتيوس، وتبين لي انك رجل أميّ، أي لا تعرف القراءة والكتابة."
- ماتيوس: "لكن يا سيدي الكاهن، أنا مجرد خادم في هذه الكنيسة. وعملي لا يتطلب مني لا القراءة ولا الكتابة. كل ما أفعله هو تنظيف الكنيسة وشطفها وترتيبها. وفتح وإغلاق أبوابها. وتقديم فنجان شاي إذا طلبته مني. وقد عملت ما يقارب العشرين عاماً دون أية حاجة للقراءة او الكتابة."
- الكاهن: "صحيح، لكن افترض ان أحد المؤمنين الذين يؤمون الكنيسة طلب منك مساعدته في قراءة ورقة دُون فيها عنوان يريد ان يستدل عليه. فماذا تفعل؟ أتقول له انك أمي، وانك لا تجيد القراءة؟"
تابع: "فهذا أمر معيب لا يليق بكنيسة ككنيستنا، خاصة انها موجودة في أرقى أحياء لندن، وزوارها هم من الطبقة راقية."
تابع الكاهن ليقول: "لكن نظراً لأقدميتك في العمل، ونظراً لاخلاصك وتفانيك فيه، سأعطيك فرصة ثلاثة أشهر لتتعلم القراءة والكتابة، وإلا فاني سأضطر لإقالتك من العمل."
هنا فكر ماتيوس فقال في نفسه: "45 سنة مضت من عمري ولم أتعلم القراءة والكتابة، فهل من المعقول ان أتعلمها بـثلاثة أشهر؟ بالفعل انه كاهن أرعن. كما ان احساسي لم يخطء به."
وبما ان ماتيوس كان صاحب عزة وكرامة، لم تسمح له نفسه ان يُقال، بل فضل تقديم استقالته من عمله الوضيع بدلاً من إقالته.
وهذا ما حصل. قدم ماتيوس استقالته شفهياً للكاهن الذي قبلها فوراً.
خرج ماتيوس من الكنيسة وهو مهموم مغموم. فقد أصبح بدون عمل. وبدل أن يتوجه مباشرة الى منزله كما يفعل عادة، أخذ يتجول على قدميه في شوارع لندن، علّه يخفف عنه همه وغمّه.
أثناء تجواله، خطر على بال ماتيوس ان يدخن سيجارة. فقد سمع من أحد أصحابه المدخنين ان السيجارة تخفف من هموم الانسان. وكونه غير مدخن، اي لا يحمل علبة سجائر، بدأ بالبحث عن محل يبيع السجائر؟
لم يجد ماتيوس في ذلك الشارع التجاري الطويل الذي كان يتجول به أي محل يبيع السجائر. استغرب الأمر. وليتأكد، أعاد الكرة ذهاباً واياباً ولعدة مرات. بالفعل لم يكن يوجد محل يبيع سجائر في ذلك الشارع.
فكر ماتيوس بالأمر، وتساءل: هل من الممكن أن أكون الوحيد الذي قد يبحث عن سجائر ولا يجد؟ أكيد هم كثر.
هنا خطرت على بال ماتيوس فكرة ان يستأجر محلاًُ صغيراً في إحدى زوايا هذا الشارع وأن يبيع به أصناف السجائر والتبغ مع بعض السكاكر والشوكولا الى جانب الصحف والمجلات. خاصة انه كان يدّخر مبلغاً من المال، أضف اليه مقدار تعويض نهاية خدمته الذي سيقبضه من الكنيسة من عمله السابق.
اطمأن ماتيوس لفكرة مشروعه الجديد وعاد الى منزله.
وصل ماتيوس الى منزله متأخراً.
سألته زوجته: "شو يا ماتيوس، مبين جايي مؤخر اليوم. على غير عادتك"
وعندما أخبرها انه قدم استقالته من عمله، شدت بشعر رأسها نادبةً: " يا مشحر يا ماتيوس، شو بدك تعمل؟ بدك ترجع خادم عند الناس متل ما كنت زمان؟"
هنا حاول ماتيوس طمأنة زوجته قائلاً: "توكلي بالله يا مرا، الله كبير" وأخبرها عن فكرة مشروعه الجديد.
في اليوم التالي، ذهب ماتيوس الى ذلك الشارع التجاري، فوجد محلاً صغيراً بنقطة جيدة على زاوية تقاطع، وكان ايجاره مقبول. استأجره ووضع فيه البضاعة اللازمة وابتدأ بعمله الجديد.
بعد مرور ثلاث سنوات، وبينما كان ماتيوس يضع بعض الفلوس في البنك. أخبره الموظف بأن مدير البنك يريد ان يكلمه في مكتبه.
طرق ماتيوس باب مكتب مدير البنك ودخل.
ألقى التحية وعرّف عن نفسه بأنه ماتيوس زبون في البنك وبأن موظف الصندوق أخبره بأن المدير في انتظاره.
ما أن عرّف ماتيوس عن نفسه، حتى قام مدير المصرف من وراء مكتبه، وأخذ يكرر كلمات الترحاب والتأهيل به، وليظهر احترامه له، ذهب الى استقباله عند الباب. وطلب منه الجلوس.
جلس ماتيوس في مقعد وثير أمام مكتب المدير ودار بينهما الحديث التالي:
ماتيوس: "خير انشاءالله يا سيد المدير، أخبرني الموظف في الباحة الخارجية انك تريد رؤيتي"
المدير: "صحيح يا سيد ماتيوس"
تابع المدير: "أردت أن أسألك عن رصيد حسابك المفتوح في دفاتر البنك"
ماتيوس: "أعتقد انه حوالي 800 الف ليرة استرليني" وهو مبلغ كبير.
المدير: "بالظبط عندك 812 الف ليرة استرليني"، تعرفون في هكذا حالة يكون أمام المدير كشف بحساب الزبون؟
ماتيوس: " 800 او 812 الف متل بعضها"
المدير: " مش حرام يا سيد ماتيوس، أن يبقى هكذا مبلغ كبير دون تشغيل او تحريك؟ الا تفكر يا بتوظيف هذا المال؟"
ماتيوس: "وكيف أوظفه يا سيدي المدير؟"
المدير: "توظفه بأن تشتري عقارات، وتبيع عقارات. أن تشتري أسهماً بالبورصة وتبيعها. أن تشتري عملات ومعادن ثميتة وتبيعها. فالمجالات كثيرة"
ماتيوس: "أشكر اهتمامك يا سيدي المدير، لكن وللأسف وقتي ضيق جداً. فعندي حالياً 15 محلاً لبيع السجائر في لندن بأخذون مني كل وقتي، ولا يوجد عندي وقت أحك برأسي"
المدير: "15 محلاً؟"
ماتيوس: " نعم 15 محل. فمنذ ان فتحت المحل الأول، بدأت أجول في شوارع لندن التجارية، وكنت حيث لا أجد محلاً لبيع السجائر، أفتح محلاً جديداً. حتى أصبحوا 15"
المدير: " طيب، شو رأيك يا سيد ماتيوس انوالبنك يقوم بتوظيف الما عنك في العقارات والبورصة طالما ان وقتك ضيق. ويكون هناك أرباحاً، يقتطع منها البنك عمولته والباثي يدخل في حسابك؟"
ماتيوس: "بصراحة يا سيدي المدير، فأنا ثقتي بمصرفكم كبيرة، وإذا كان البنك يقوم بهذا مكاني فلا مانع لدي"
المدير: "إذاً اتفقنا. تفضل وقع على هذا التوكيل الخاص الذي يسمح للبنك ان يستعمل حسابك في عمليات الشراء والتوظيف"
وناوله نموذج للتوقيع.
هنا قال له ماتيوس: "لو سمحت يا سيدي المدير، لو بتناولني المحبرة حتى أبصم. فأنا لا أعرف التوقيع"
هنا دُهش مدير البنك وقال: "شووووووووو؟"
ثم تابع مندهشاً: " بدك تقول لي، انك ما بتعرف تقرأ ولا تكتب وعامل 812 الف ليرة استرليني؟
كيف لو كنت بتعرف تقرأ وتكتب، وين كنت صرت؟"
أجاب ماتيوس: "يا سيدي المدير، لو كنت بعرف أقرأ وأكتب لكنت بعدني خادم بكنيسة مار جرجس وما كنت قدمت استقالتي منها"
انتهــــــــــــــــــــــــى