شنغهاي (د ب أ) – تخطو مدينة شنغهاي التي تُعد أكثر مدن الصين سحراً وجمالاً، خطى واثقة نحو آفاق جديدة من العظمة والشموخ، حيث تعتزم المدينة الساحلية – بصفة خاصة – سحب البساط من تحت أقدام هونغ كونغ لتظفر بلقب أكبر مركز مالي في آسيا. وترتكز المدينة العملاقة في طموحها وسعيها الحثيث نحو هذا المجد على ناطحتي سحاب في الحي المالي «بودونغ» واللتان تعدان من أكبر ناطحات السحاب في العالم. وبجوارهما تجري حالياً – على الرغم من الأزمة المالية العالمية – أعمال تشييد برج «Shanghai Center» العملاق والذي من المقرر أن يصل ارتفاعه إلى 632 متراً بحلول عام 2014 ليحتل المرتبة الثانية بعد برج خليفة في دبي. وسيضاهي تأثير معرض «إكسبو» الذي ستنطلق فعالياته في شنغهاي في الأول من آيار/مايو المقبل، تأثير دورة الألعاب الأوليمبية التي استضافتها بكين في عام 2008، حيث من المتوقع أن يبلغ عدد زوار المعرض الذي تشترك فيه 250 دولة ومنظمة، نحو 70 مليون زائر، ليكون بذلك أكبر معرض دولي على مر العصور.
وتعج المدينة العملاقة التي يبلغ عدد سكانها 18 مليون نسمة بالبنايات، وهي تتسم بطابع يمزج بين الحداثة والتجارة ومظاهر الحياة اليومية الصينية مع بعض المعالم ذات الطابع الآسيوي الفريد من نوعه والتي يزداد الخطر المحدق بها يوماً بعد يوم. ومازال عبق الماضي يفوح في المنطقة المحيطة بحديقة «يويانغ» الواقعة في الحي الصيني والتي تضم بين أركانها استراحة الشاي القديمة، حيث مازالت الأسقف المقوسة التي تشير نحو السماء ومصابيح الإضاءة الحمراء الشهيرة التي تزدان بها الشوارع وكذلك المطاعم البسيطة التي تقدم الوجبات الشعبية كالسرطان والحبار المحمر على أسياخ خشبية تشكل معالم الصورة في هذه المنطقة.
وتتدافع الكتل البشرية عبر الحارات التي تعج بالمحال التجارية والتي تتنوع فيها السلع بدءاً من اللآلىء مروراً بألعاب الأطفال المصنوعة من البلاستيك وصولاً إلى السلع رديئة الجودة. وتعبىء الرائحة النفاذة لأكلة «تشو دوفو» الشهيرة المكان، وهي عبارة عن أكلة خفيفة من جبن التوفو المصنوع من فول الصويا والمُحمر في الزيت.
وينعم السائح بهدوء أكثر في شارع الصين القديمة «فانغبان لو»، وهنا تبيع سيدات مُسنات مخبوزات حلوة المذاق. وفي الطابق العلوي فوق المحال التجارية الصغيرة توجد مطاعم تقدم أطباق الحساء بالمعكرونة وكذلك المعجنات المحشوة «Baozi » و«Xiaolongbao» التي تحظى بشعبية كبيرة في شنغهاي، ويمكن تناول المعكرونة المطهية على البخار والتي يبيعها الباعة الجائلون أيضاً دون قلق. وبالنسبة للسياح تسري القاعدة التالية (الأطعمة التي يأكلها صينيون كثيرون، هي أطعمة جيدة يمكن تناولها، أما إذا لم تشتمل قائمة الطعام على صور للمأكولات التي يقدمها المطعم، فما على السياح سوى الإيعاز إلى الأطباق الموجودة على المائدة المجاورة لهم).
ويحمل طريق التجول القديم على ضفة نهر «هوانغبو» اسم «بوند»، وهنا يوجد مبنى الجمارك الذي يعود تاريخه إلى عام 1927 ومبنى بنك الصين الذي تم تشييده عام 1936 وفندق «Peace Hotel» المصمم على طراز «شيكاغو» ذي الطابع التجاري ويضم بهواً يحمل سمات فن «آرت ديكو»، غير أن هذا الفندق مغلق في الوقت الحالي لإجراء بعض التجديدات. وتوجد في هذا الطريق أيضاً عدة مباني أخرى إما مهجورة أو في حاجة ماسة للصيانة والترميم. ويحمل طريق التجول القليل من الروح العصرية، حتى وإن كان يضم بين جنباته أفرع لبعض الماركات العالمية من قبيل شركة «Prada» أو «Zegna» الإيطاليتين للملابس الراقية.
وفي الحي الفرنسي العتيق يفوح عبق الماضي ذو السحر الآخاذ من فندق «Garden Hotel» الذي يعود تاريخه إلى الثلاثينيات من القرن الماضي والذي يبدو في أبهى صوره بعد أعمال التجديدات والتحسينات التي أجريت عليه. وفيما مضى كان هذا الفندق نادي مخصص للفرنسيين فقط، وبعد الانتصار الذي حققه الشيوعيون عام 1949 اتخذ منه الزعيم الصيني «ماو تسي تونغ» مقراً للحكم. وليس ببعيد عن هنا يقع قلب الامتيازات الفرنسية؛ ألا وهو أفينيو «King Albert Apartments» الذي أنشىء عام 1930، فهنا تختفي ضوضاء المرور تماماً بين البنايات ذات الطوابق الأربعة وتحل محلها زقزقة العصافير. ولا يعكر صفو هذا الجمال سوى قطع الملابس المُعلقة على أحبال الغسيل الطويلة التي تتدلى من النوافذ لتجف في الهواء الطلق.
وبالطبع لا يروق هذا المنظر لمسؤولي المدينة، حيث يعتقدون أنه يشوه الصورة الجمالية وطابع المدنية الحديثة لأكبر مدن الصين، كما أنهم يحاولون جاهدين إقناع سكان شنغهاي بالتخلي عن عادة الذهاب للتسوق بالبيجاما، وهو مظهر له سحره الخاص يمكن تفسيره بارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف وضيق المنازل السكنية. وتجدر الإشارة إلى أنه فيما مضى كان من الشائع أن تشترك أكثر من أسرة في حمام واحد، فكان قاطنو هذه المنازل يرون بعضهم البعض برداء النوم، ما دفعهم إلى التساؤل، ما المانع إذن من أن يتجولوا طوال اليوم وهم يرتدون رداء النوم المريح؟.
ويُعد زقاق «Cité Bourgogne» الذي يعود تاريخه إلى عام 1930، نموذجاً للمنازل الضيقة في الحي الفرنسي، وفي عام 1990 تم تسليم بعض المنازل التي يطلق عليها اسم «ليلونغز» في هذا الزقاق لهيئة الآثار، كما تم هدم منازل أخرى. كما يُعد معرض «إكسبو» ذريعة لهدم الأحياء العتيقة. وعن هذه المشكلة يقول وانغ جينجون، سائق سيارة أجرة يبلغ من العمر 44 عاماً :”ليس بإمكان سكان هذه المنازل شراء منازل جديدة ويتعين عليهم بالتالي الانتقال إلى أماكن بعيدة للغاية”.
وفي حديقة الشعب يقام أيام السبت والأحد سوق للزواج، وعن هذا السوق يقول أب يدعى يانغ جييون :”أولادنا ليس لديهم وقت كاف للبحث عن شريك الحياة بسبب ظروف عملهم، لذا جئنا إلى هنا لنساعدهم في العثور على شريك حياة مناسب”. ويحمل الآباء لافتات تحتوي على المعلومات الأساسية عن الشخص الراغب في الزواج وكذلك مواصفات شريك الحياة، فها هو أحد الآباء يحمل لافتة توضح شخصية ابنته :”أنثى، 27 عاماً، حسنة المظهر، بشرة بيضاء من أسرة مثقفة، مستوى اجتماعي عال، دخل سنوي 70 ألف يوان، تعمل لدى واحدة من أفضل 500 شركة”، ولافتة أخرى تحدد مواصفات العريس المرغوب :”تبحث عن رجل حاصل على مؤهل عال ومن نفس المستوى الاجتماعي ولديه محل إقامة في شنغهاي”.
ويتجاذب آباء “الأطفال الكبار” أطراف الحديث ويطرحون على بعضهم البعض أسئلة من قبيل «كم عمر ابنتك؟»، وتتابع إحدى السائحات هذا المشهد وتصاب بحالة من الذهول، حيث تشعر كما لو كانت في “سوق للماشية”. ويشار إلى أن الزواج المنظم في الصين يخضع لعادات وتقاليد معينة، وهنا يوضح جييون أسس اختيار شريك الحياة قائلاً :”سمات الشخصية هي الأساس، وبعد ذلك يأتي المستوى التعليمي، ثم الوظيفة، ثم ما إذا كان العريس لديه منزل مناسب أم لا”، ولعل الحب لا يمثل لجييون شرطاً أساسياً للزواج.